أحداث قصتنا اليوم تدور وقائعها في باريس و تحديدا عند مصاعد فندق جراند أوتيل، حيث تجمع عدد كبير من رجال السلك الدبلوماسي في إنتظار أن تحملهم إلى قاعة الإستقبال التي كان يقام بها أول و أضخم حفل إستقبال دبلوماسي لموسم عام 1898. و عند أحد المصاعد تجمع عدد من السفراء و كبار رجال السفارات، و كان من بينهم لورد دوفرين السفير البريطاني في باريس و عندما وصل إلى المصعد، و قبل أن يخطو الخطوة التي ستقوده إلى داخل المصعد، توقف فجأة و قد شحب لون وجهه، و مد يده يمنع سكريتيره من المضي داخل المصعد، و إستدار مبتعدا و قد ظهرت عليه ملامح الإضطراب الشديد..و تعالت همهمات الإندهاش ممن حوله و عندما أغلق باب المصعد، و تحرك مرتفعا، كان يحمل إثني عشر رجلا يمضون إلى حتفهم.
و هكذا، أنقذ لورد دوفرين نفسه من مصعد الموت، و كل هذا الفضل يعود إلى ذلك الوجه الذي رآه داخل المصعد..و كانت ذكرى ذلك الوجه تطارده منذ عشرة أعوام.
كان وجها قبيحا ممسوخا، مشؤما، ينبض بشر لا يصدق..و كان لورد دوفرين قد طالع تلك الملامح على وجه شبح من الأشباح.
لم يكن لورد دوفرين رجلا عاديا..بل كان شخصية هامة مرموقة، حيث عمل كحاكم عام لكندا، و نائبا للملك في الهند، و سفيرا لبلاده في روما و موسكو. و كان طوال حياته ينكر بشدة كل ما يتصل بما وراء الطبيعة من الظواهر الخارقة و الأشباح...أو هكذا كان على الأقل، حتى صيف عام 1888، عندما رأى ذلك الوجه لأول مرة، و لم يفارق ذاكرته بعد ذلك أبدا.
في صيف عام 1888، قبل لورد دوفرين دعوة صديق له للنزول عليه في قصره بريف إيرلندا. و في مساء الرابع عشر من شهر يونيو ذهب اللورد دوفرين إلى فراشه، لكنه عانى من أرق منعه من النوم. و لم يتمكن من النوم إلا عند منتصف الليل، إلا أن الغفوة لم تدم طويلا، و إستيقظ فجأة، ليجد تغييرا غريبا طرأ على جو الحجرة،. أحس بجو الحجرة محاطة بهالة أو طاقة غير طبيعية.
كانت تلك الليلة مختلفة عن بالي الليالي، حيث كان ضوء القمر يبعث بنوره خارج الحجرة و ينعكس ضوءه على جانب الحديقة الذي تغطيه الحشائش، و يلقى بظلاله المنعكسة على الأشجار الكثيف من خلفه. و ميز لورد دوفرين وسط همس الريح صوت أنين، فترك سريره و إتجه نحو باب الشرفة المرتفع و قام بفتحه، و خرج منه بإتجاه الشرفة التي تقود إلى الحديقة. تطلع حوله باحثا عن مصدر الصوت فقد كان من الواضح أن الصوت يصدر من منطقة الظلال التي يلقيها صف الأشجار.
بينما كان اللورد دوفرين يحدق في الظلام، رأى شيئا يتحرك وسط هذا الظلام، مع تواصل الأنين و الأنفاس اللاهثة و فجأة خرج جسم من الظلام، و سقطت عليه الأشعة القوية للقمر المكمل.. كان رجلا، يترنح في مشيته تحت وطأة ذلك الذي يلفه و الذي كان يشبه إلى حد كبير الكفن.
أسرع اللورد دوفرين، فخطا عدة خطوات إلى الأمام و هو يصيح" إنتظر أنت هناك؟.. ما الذي تحمله معك؟.." فقد كان مقتنعا أن الجسم الذي يتحرك في الظلام رجل يحمل شيئا يلتف حول جسده و ينسدل على رأسه.
في مواجهة هذا التحدي من جانب اللورد دوفرين، رفع الرجل رأسه من تحت الأحمال التي ينوء بها..و إستطاع اللورد دوفرين من رؤية وجه قبيح و منفر إلى أبعد حد، مما جعله يتقهقر بضع خطوات للخلف، و قد حفرت معالم ذلك الوجه الممسوخ في أعماق عقله. فحاول أن يستجمع بعضا من شجاعته، فصاح قائلا:"أين تمضي بهذا الذي معك؟"، و عندما تقدم عدة خطوات ناحية الرجل كانت دهشته كبيرة للغاية عندما رأى الرجل يختفي فجأة بما يحمل، دون أن يتحرك من مكانه.
لم تكن هناك أي آثار لأقدام على الحشائش المبتلية بالندى، لا شيء سوى ضوء القمر و أصوات الليل المألوف، عاد اللورد دوفرين إلى حجرته و سجل في مفكرته تفاصيل الحدث الغريب الذي جرى له.
و في صباح اليوم التالي و أثناء الإفطار، إستفسار اللورد دوفرين من مضيفه، فعرف أنه لم تحدث حالة وفاة و لم يجري دفن في القرية التي يقع القصر قريبا منها، كما لم لم تلاقي صورة الرجل الذي يحمل الكفن صدى لدى أي أحد، و بقيت حادثة تلك الليلة يكتنفها الغموض لمدة عشر سنوات، و إذا كانت تفاصيل تلك الواقعة قد بهتت بعض الشيء في ذاكرة اللورد دوفرين، إلا أن صورة ذلك الوجه القبيح بكل ما تعكسه من كراهية، بقيت محفورة في ذاكرته.
نعود مرة ثانية إلى باريس، و إلى حفل الإستقبال المعقد في فندق جراند أوتيل، عندما إقترب اللورد دوفرين من المصعد، و كاد أن يخطو داخله، وقعت عيناه على عامل المصعد و تذكر بهزة رعب شاملة أنه نفس الوجه الذي رآه تلك الليلة بينما كان ينزل في قصر أحد مضيفه، كان وجه عامل المصعد يحمل نفس النظرة الخبيثة، و نفس الملامح الممسوخة، و إستطاع اللورد دوفرين من تمالك نفسه بمجهود خرافي. إستدار معتذرا بمرض مفاجىء، و إبتعد مستندا على سكرتيره إلى مقعد قريب، و عندما أغلق باب المصعد و تحرك مرتفعا، نهض اللورد دوفرين متجها إلى مكتب مدير الفندق. لقد كان مصرا على معرفة هوية ذلك الرجل، و من أين أتى و منذ متى يعمل في الفندق؟ و لكن قبل أن ينجح مدير الفندق في الإجابة عن أسئلته المتلاحقة، وصل إلى مسامعهم صوت إرتطام فظيع.
و إكتملت الصورة، عندما إندفع سكرتير اللورد دوفرين إلى حجرة المدير حاملا الخبر اليقين.. حادث فظيع، عندما إرتفع المصعد إلى الطابق الخامس، إنقطع السلك الغليظ الذي يحمله بطريقة غير مفهومة، و تحطم المصعد و تعرض جميع من به إلى إصابات بليغة و من بين الذين ماتوا، كان عامل المصعد.
من كان ذلك الرجل؟ هذا هو السؤال الذي لم يستطع أحد من الإجابة عليه، فهو لم يكن مسجلا ضمن قوائم العاملين بالفندق.
لكن اللورد دوفرين كان واثقا من شيء واحد، و هو رؤيته لشبح عامل المصعد هذا، منذ عشر سنوات، بينما كان الرجل لايزال على قيد الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق