آخر المواضيع

الاثنين، 3 مايو 2021

جيمي فريل و قلعة الجن




يحكى أنه في بلدة فانيت التي تقع في مقاطعة دونجال التاريخية في إيرلندا عاش شاب يدعى جيمي فريل مع أمه الأرملة التي كان يعيلها بما يكسبه بكد ذراعيه، ففي نهاية كل أسبوع إعتاد أن يلقي بأجرته في حضنها و يشكرها حين ترجع له نصف فلس يشتري به تبغا. و قد حظي بإحترام جيرانه بسبب إخلاصه و تفانيه في خدمتها، و لقبوه بالإبن البار.

لكنه كان يجهل رأي جيرانه الآخرين حوله، أولئك الذين لم يرهم، رغم أنهم يعيشون على مقربة منه، ربما لأنهم جماعة من الجن لا يرون من قبل الآدميين إلا في أمسيات مايو و عيد القديسين.

فعلى بعد ربع ميل من كوخه، كانوا يقيمون في قلعة نصف مهدمة، ينيرون نوافذها القديمة في عيد القديسين فقط، فيصبح بمقدور العابرين رؤية قاماتهم الصغيرة و هم يدخلون إلى القلعة و يخرجون منها، و سماع موسيقاهم حين تصدح في الهواء.

و لم يكن أحد ليشك بوجودهم في ذلك المكان، لكن لم يكن مخلوق يتجرأ على الإقتراب منهم أو التطفل عليهم. و قد تساءل جيمي الذي لمح ظلالهم، و سمع موسيقاهم الساحرة عن بعد، كبقية الناس، في نفسه كيف تكون تلك القلعة من الداخل؟ و ماذا يحدث فيها؟ و في أحد أيام عيد القديسين، إعتمر قبعته و قال لأمه:" سأذهب للقلعة لأجرب حظي".

فصرخت أمه مذعورة:" و ماذا ستلاقي هناك و أنت إبن الأرملة الوحيد. لا تكن أحمق يا جيمي، سيقتلونك إن ذهبت، ثم ألا تفكر بما سيحل بي من بعدك؟". لكنه أصر قائلا:" لا تخافي يا أماه، لن يطاولني الأذى. يجب أن أذهب".

ثم خرج منطلقا، و حين عبر حقول البطاطا، لمح القلعة بشبابيكها التي تشع نورا، محولة أوراق شجر التفاح البري، في الحديقة إلى ذهب خالص. إقترب منها ووقف قرب جدار متداع، فشد العزم على المضي قدما نحو الداخل. حينها شاهد عددا من الجن الذين لا يتجاوز حجمهم حجم طفل في الخامسة، يرقصون على أنغام الناي، بينما إنغمس بقيتهم في الأكل و الشرب. لكنهم صاحوا جميعا حين رأوه:" مرحبا بك يا جيمي فريل". و ترددت كلمة " مرحبا" من كل فم في القلعة، فأنخرط معهم في الشرب و اللهو و لم يشعر بمرور الوقت حتى أعلن واحد من مضيفيه قائلا:" سنمتطي الليلة خيولنا و نذهب إلى دبلن لنسرق إحدى الصبايا، أتأتي معنا يا جيمي؟".

فرد بحماس و من دون طول تفكير:" نعم بالطبع". و في خلال لحظات، كانت قافلة من الخيل تصهل عند بوابة القلعة. إمتطى جيمي صهوة الجواد و إرتفع به عاليا في الهواء. ثم مر عابرا من فوق كوخ أمه و مجموعة من الجن تحيط به و مضوا جميعا من دون توقف فوق الجبال و التلال الصغيرة، مرورا بـ"لوتش سويلي"، و كثير من البلدات و الأكواخ، و رأوا كيف يحتفي الناس بالعيد بشي الكستناء و أكل التفاح مستمتعين، و خيل لجيمي أنهم قد حلقوا فوق آيرلندا بأكملها قبل وصولهم إلى دبلن، و كانوا كلما مروا فوق كنيسة ديري قال أحدهم:"ديري، ديري، ديري" حتى إمتلأ الفضاء بخمسين صوت يكرر كلمة"ديري" في اللحظة نفسها. و بهذه الطريقة علم جيمي أسماء جميع المناطق التي عبروا من فوقها إلى أن سمعهم يقولون"دبلن، دبلن"، و فيها توقفوا فوق واحد من أجمل و أثرى البيوت في منطقة"ستيفنس غرين". 

ترجلت القافلة بالقرب من إحدى نوافذه، فرأى جيمي وجها جميلا نائما فوق سرير رائع، و رأى الشابة، صاحبة ذلك الوجه الجميل تحمل و تسحب بعيدا لتترك في مكانها عصا أخذت شكلها بالضبط. ثم توضع على حصان أمام أحد الجن، فيطير بها مسافة قصيرة ليسلمها لآخر و هكذا، مع ترداد أسماء الأماكن كما فعلوا في السابق. و عندما إقتربوا في تحليقهم من بيته سمعهم يقولون:" راث مولان، ميلفورد، تامني". فقال لهم:" لقد نال كل منكم دوره في حملها، أيمكنني أنا أيضا حملها و لو لمسافة قصيرة جدا؟". فرد الجن:"بالطبع يا جيمي يمكنك ذلك". فحضنها جيمي بلهفة، هابطا بها سريعا بالقرب من باب بيته، فثارت ثائرة الجن و تصايحوا من خلفه و هم يلحقون به قائلين:" جيمي فريل.. جيمي فريل.. أهذا هو جزاؤنا؟ "، لكنه لم يكترث أو يتوقف و شد بإصرار على حمله الذي لم يعد يعرف ما هو بالضبط، فقد صارت الصبية تتحول بين يديه مرة إلى كلب أسود ينبح في وجهه محاولا عضه، و مرة إلى قضيب حديد يلمع بزيف و كأنه محمى، و أحيانا تتحول إلى كيس من الصوف، و ظل جيمي ممسكا بها حتى إنصرف الجن خائبين و ذلك بعد أن إستدارت أصغر أنثى فيهم قائلة:" جيمي فريل أخذ تلك الصبية منا، لكن  يجب أن لا يهنأ بها، لذلك سأجعلها خرساء صماء". و ألقت بشيء ما فوق الفتاة و إختفت.

فتح جيمي البوابة و دخل فإستقبلته أمه بالقول:"ها يا جيمي، لقد غبت الليل بطوله، ماذا فعلوا بك؟". فأجابها:"  أنا بخير يا أمي، و قد رزقت بحظ طيب، أنظري ماذا أحضرت لك، هذه صبية جميلة ستأنسين برفقتها"، لكن كل ما إستطاعت الأم قوله، و هي التي لم تفارقها الدهشة إلا بعد وقت طويل:" باركنا و أحرسنا يا رب". ثم أطلعها جيمي على كل ما حدث له، منهيا كلامه بالقول:" من المؤكد أنه لن يهون عليك تركها تضيع للأبد مع أولئك الجن، أليس كذلك؟ "، غير أن الأم إعترضت قائلة:" لكن كيف يمكن لسيدة شابة مثلها أن تشاركنا طعامنا البسيط، و أن تحيا حياتنا الفقيرة؟ هيا أجبني أيها الأحمق"، فرد جيمي مشيرا بإتجاه القلعة:" آه يا أمي، أليست الحياة معنا أرحم لها من هناك على الأقل؟ ". و بينما هما يتحاوران هكذا، كانت الشابة ترتجف من البرد، و هي لا تزال في ملابس نومها الرقيقة، و اضطرت لحشر نفسها بالقرب من الموقد. حدقت الأم فيها بشفقة ثم قالت:" يا لها من صبية مسكينة، إنها جميلة و لا عجب في أنهم إختاروها، علينا أن نلبسها ثيابا دافئة و لائقة، و لكن بحق السماء كيف يمكنني العثور على ما يناسبها من ملابس؟".

وإنطلقت نحو خزانتها لتخرج ثوب الأحد البني، ثم سحبت درجا و أخذت منه زوج جوارب بيضاء طويلة، من الكتان الفاخر و قبعة، حيث كانت تحتفظ بهذه المجموعة من الملابس الفخمة للمناسبات الخاصة كالإحتفالات التي سوف تؤدي فيها دور الرئيسة، لذلك أبقتها مخزنة لا ترى الضوء إلا وقت تشميسها، و فكرت بأنها رغم ذلك ليست بخسارة على هذه الضيفة الفاتنة المرتجفة، التي كانت تنتقل بفزع منها إلى جيمي و منه إليها.

إرتدت الصبية بمشقة الثياب التي قدمتها لها الأم، و جلست على كرسي قديم إلى جانب الموقد، دافئة وجهها بين كفيها، و فجأة سألت الأم ثانية:"كيف يمكننا رعاية سيدة كهذه؟".

فأجابها جيمي:"لا تقلقي بهذا الشأن يا أمي، سأكد و أعمل لأعيلكما أنتما الإثنتان". و لكنها عادت و كررت سؤالها السابق:"و لكن كيف تقتات سيدة شابة مثلها بطعام فقير كطعامنا؟". فرد جيمي بكل صبر:"سأعمل ما بوسعي لأعيلها"، و هذا ما فعله حقا.

و هكذا مضت الأيام، لكن حزن الصبية لم يفارقها، و كثيرا ما هطلت الدموع من عينيها الجميلتين في المساءات التي قضتها فيها تراقب الأم العجوز و هي تغزل بجانب الموقد، و بقى جيمي يعمل بجد محاولا إسعادها، و كان يبهجها بين الحين و الآخر بوجبة من سمك السلمون، و أمام طيبتهما أرغمت نفسها على الإبتسام، و بالتدريج عودت نفسها على نمط الحياة معهما، و لم يكد يمضي الكثير من الوقت حتى صارت تطعم البقرة، و تهرس البطاطا للغذاء، و تحيك الجوارب، و مرت سنة كاملة على هذا المنوال، و حل عيد القديسين من جديد، فاعتمر جيمي قبعته و قال لأمه بأنه سوف يذهب إلى قلعة الجن ليجرب حظه، فصرخت الأم مذعورة و أخبرته بأنه هذه المرة لو ذهب إليهم فسوف يقتلونه بالتأكيد بسبب غدره بهم في السنة الماضية. لكنه لم يفعل سوى مسح دموع أمه و التهدئة من روعها، ثم إنطلق خارجا.

عند وصوله بمحاذاة أشجار التفاح البري ذاتها، رأى أضواء مبهرة تملأ نوافذ القلعة كما في السابق، و ميز أصوات أحاديث عالية، فتسلل إلى حافة النافذة و أصغى، فسمع أحدهم يقول:" لقد خدعنا جيمي فريل في العيد الماضي خدعة بشعة لا تغتفر، حين سرق منا الصبية الجميلة". فقالت الجنية:"صحيح، و قد عاقبته على ذلك فجعلتها صماء خرساء أمام ناظريه، لكنه لا يعلم أن ثلاث نقاط فقط من هذا الشراب الذي أحمله في يدي يرجع لها سمعها و نطقها مرة أخرى". و بمجرد سماع جيمي هذا الكلام لم يطق صبرا، فأندفع داخل القاعة و هو يكاد يسمع دقات قلبه بأذنيه، و جرى الترحيب به ثانية و بالطريقة نفسها، حيث صاح الجميع عند رؤيته:" ها قد جاء جيمي فريل، أهلا و سهلا بجيمي". ثم قالت الجنية الصغيرة ذاتها حين هدأت الضجة:" هيا أشرب معنا نخب صحتنا يا جيمي من هذه  الكأس التي في يدي"، فخطف جيمي الكأس بسرعة، و فر بإتجاه الباب. و هو غير مصدق كيف وصل إلى كوخه، متقطع الأنفاس، ثم إنهار بجانب الموقد، فهرعت إليه أمه قائلة:" لابد أنهم قضوا عليك هذه المرة يا ولدي المسكين". فرد عليها جيمي قائلا:" بالعكس لقد وفقت أكثر من المرة الماضية". و سلم أمه كأس الشراب التي مازالت تحوي في قعرها القطرات السحرية الثلاث. 

 و هكذا كانت أولى كلمات الفتاة حين عاد لها نطقها وهي شكر لجيمي. ثم قضى ثلاثتهم الليل بطوله يثرثرون حول الموقد حتى سمعوا صياح الديكة و توقف عزف الجن عن التردد في الهواء، فكم كان لديهم من كلام لم يقل من قبل. 

بعدها طلبت الشابة من جيمي مساعدتها على خط رسالة لأبيها لتخبره فيها عما حدث، و مرت عدة أسابيع دون أن تتلقى أي رد  فأعادت كتابة رسالة أخرى و أرسلتها لوالديها. غير أن جميع المراسلات التي قامت ببعثها إلى أبيها لم يكن هناك أي جواب، حتى قالت لجيمي في أحد الأيام بأنه يجب عليها أن تذهب إلى دبلن لتجد والدها و أنه على جيمي مرافقتها، فأخبرها جيمي بأنه لا يملك أجرة العربة، و أنه من الصعب السفر إلى دبلن سيرا على الأقدام. لكنها ألحت و رجته طويلا فوافق و إنطلقا مشيا من "فانيت" إلى "دبلن"، لم تكن الطريق سهلة كما في رحلته مع الجن، لكنهما في النهاية، و بعد مسيرة شاقة تمكنا من الوقوف أمام باب الفتاة، ليقرعا جرس البيت       الفخم في"ستيفن جرين". 

و عندما أطلت الخادمة قالت لها الصبية بأن تخبر أباها بأن إبنته هنا و تريد مقابلته، فردت عليه الخادمة بأنه ليس لسيدها أية إبنة، لقد كانت له واحدة لكنها توفيت منذ أكثر من سنة، فردت الصبية بدهشة:" ألم تعرفيني يا سوليفان؟ ". 

"لا لم أعرفك يا صغيرتي".

" إسمحي لي برؤية السيد أرجوك هذا كل ما أطلبه". 

"حسنا هذا طلب سهل، لنرى ما بوسعنا فعله". 

و خلال لحظات قصيرة كان والد الصبية عند الباب. 

فخاطبته قائلة:"ألم تعرفني يا والدي العزيز؟". 

فرد عليها بحدة:" كيف تتجرأين على مخاطبتي بكلمة أبي، ليس لي أي بنات، و أنت لست سوى محتالة". 

فردت عليه الصبية قائلة:"أنظر جيدا إلى وجهي يا أبي و ستتذكرني بالتأكيد". 

فرد عليها بصوت تحول من الغضب إلى الحزن الشديد:" إبنتي ماتت، و دفنت منذ زمن طويل.. يمكنك أن تغادري بسلام". 

فردت عليه الشابة:" إنتظر يا أبي العزيز، أنظر إلى هذا الخاتم في إصبعي. أترى إسمك و إسمي منقوشين عليه". 

فأجابها والدها بأن الخاتم من المؤكد هو خاتم إبنته، لكنه يشك في الطريقة التي حصلت بها عليه. 

فانفجرت الصبية المسكينة باكية بمرارة، و تابعت تقول:"نادي أمي أرجوك، أنا واثقة من أنها ستتمكن من التعرف علي". 

فرد عليها والدها:" لم تعد زوجتي المسكينة تأتي على ذكر إبنتنا كثيرا هذه الأيام، فقد أوشكت أن تنسى حزنها، فلم أقلب عليها مواجعها، و أذكرها بخسارتها". 

لكن الصبية توسلت بإلحاح، حتى أرسلوا في طلب الأم.

 بادرتها قائلة:"أمي، ألا تميزين إبنتك؟ ". 

فردت عليها الام:" ليس لدي بنات، إبنتي ماتت منذ زمن طويل". 

" تأملي وجهي و ستعرفينني"هكذا ردت الصبية على الأم. 

لكن المرأة العجوز هزت رأسها كعلامة للنفي. 

فردت الصبية و هي في حزن شديد:"لقد نسيتموني جميعكم، لكن أنظروا إلى هذه الوحمة التي على رقبتي، بالتأكيد ستتعرفين إلى يا أمي الآن". 

فأجابت الام:" نعم نعم، غاليتي غريس لديها علامة كهذه بالظبط فوق رقبتها، لكنني رأيتها في كفنها، و شهادتهم يضعون الغطاء فوق تابوتها". 

حينها إندفع جيمي للكلام، فبدأ يقص عليهم رحلته مع الجن، و كيف قاموا بخطف الصبية ووضعوا مكانها عودا يابسا تقمص هيأتها تماما، و عن حياتها معهم في" فانيت" و عن عيد القديسين الماضي، و قطرات الشراب الثلاث التي خلصتها من السحر، و عندما توقف جيمي عن الكلام تابعت إبنتهما الحديث واصفة حياتها مع جيمي و أمه، و معاملتها الطيبة لها. فلم يكن على الوالدان سوى شكر جيمي بإظهار أعظم  التقدير و الإحترام له. و حين أعلن عن رغبته في العودة إلى "فانيت" لم يعرفوا كيفية مكافأه، لكن فجأة تعقدت المسألة أكثر حين قالت إبنتهما بأنها لن تسمح له بالرحيل من دونها، فقد قالت لأبويها:"إذا كان على جيمي الذهاب، فسأذهب معه، فلقد أنقذني من براثن الجن، و لم يتخلى عني منذ ذلك الحين، فكدح بنشاط لأجلي، و لولاه لما رأيتماني مرة أخرى، فإن غادر سأرافقه". 

و أمام قرارها هذا، فكر السيد العجوز بإمكاني تزويجهما، و أن يجعل من جيمي صهرا له، و هكذا كان، فأرسلوا لإحضار أمه من" فانيت" على وجه السرعة، ثم أقاموا لهما عرسا بمنتهى الروعة، و قد عاش الجميع في بيت دبلن الكبير، حتى وفاة الوالد العجوز، فورثت غريس و جيمي ثروته الطائلة.

                                                                                                                    

                                                                                                                    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق