آخر المواضيع

السبت، 1 يناير 2022

سلفادور دالي الفنان العجيب


سلفادور دالي الفنان العجيب


يعتبر الفنان الإسباني الراحل سلفادور دالي من أهم فناني القرن العشرين، و هو أحد أعلام المدرسة السريالية، و هو يتميز بأعماله الفنية التي تصدم المشاهد بغرابتها، و تصدمه أيضا بغرابة شخصية صاحبها و سلوكيات و تعليقاته و كتاباته غير المألوف و التي تصل حد اللامعقول و الإضراب النفسي.

في شخصية دالي و في حياته و في فنه يختلط الجنون بالعبقرية، و الحقيقة بالوهم.

و عادات دالي شديدة الغرابة، فالبنسبة للنوم يقول:"الناس عادة تتناول الحبوب المنظومة، حين يستعصي عليها النوم، لكني أفعل العكس تماما، ففي الفترات التي يكون فيها نومي في أقصى درجات إنتظامه و روعته، فإنني و بتصميم أقرر أن أتناول حبة منومة، و بصدق و بدون ذرة إستعارة، فإني أنام كلوح الخشب، و أستيقظ مستعدا شبابي مرة ثانية".

و من مكان لآخر يعطينا" دالي" تقريرها شبه يومي عن عمليته الإخراجية و كيف أنها تتم بسلاسة و نظافة، و يتكلم بحيرة عن عدم فهمه لإهمال المفكرين و الفلاسفة لهذه العملية رغم أهميتها للإنسان.

و عشق" دالي" للذباب لا يوجد ما يبرره، فقد قال ذات مرة:" يعجبني الذباب و لا أكون سعيدا إلا حين أكون عاريا في الشمس و الذباب يغطيني".

و في موقف آخر  يفاجأ بالصحفيين يحيطون و يتذكر أنه قد وعد بتقديم تصميم جديد لزجاجة عطر، و أعد مؤتمرا صحفيا لذلك، و بعد أن تسلم الشيك من صانع العطور، و سأله الصحفيون عن التصميم الجديد، فوجئ بأنه نسي كل شيء عنه، فإتبع أول ما ورد على ذهنه لينجو من هذا الموقف، تناول لمبة فلاش محترقة من أحد الصحفيين و رفعها قائلا:"إن هذا هو تصميمه الجديد، و أطلق عليه إسم" فلاش"، و هتف الصحفيون و هللوا و معهم صانع العطور".

الإيحاءات الغريبة التي تخلفها رسومات "دالي" في النفس تجعلك خارج الزمان و المكان.

رسم"دالي" لوحة شهيرة بعنوان "ثبات الذاكرة" عام 1931، يظهر فيها عدد من الساعات التي تشير إلى الوقت، و هي تبدو مرتخية و في حالة مائعة، و تعرف اللوحة أيضا بإسم الساعات اللينة، و الساعات المتساقطة، و الساعات الذئبة، و فيها موقف نسبي من الوقت و الزمن فيما يشبه نظرية أينشتاين.

و يقول الباحثين أن الفكرة الأصلية لهذه اللوحة قد أتت "لدالي" في يوم صيفي حار، حيث كان في منزله يعاني من الصداع بينما "جالا" زوجته تتسوق، لاحظ بعد تناوله وجبته نصف قطعة من الجبن تذوب بسبب حرارة الشمس، و في تلك الليلة و بينما كان يبحث في روحه عن شيء ليرسمه، شاهد حلما لساعات تذوب في الفراغ، عاد بعد ذلك إلى عمله الذي لم ينتهي بعد، حيث كان يرسم المرتفعات و الشجرة، و خلال ساعتين أو ثلاث كان قد أضاف الساعات الذئبة و أصبحت اللوحة كما نعرفها الآن.

و رسم "دالي" "تحولات نرجس المسخية" أو "إنمساخ نرجس" عام 1937 وفقا للأسطورة الإغريقية وقع نرجس في غرام إنعكاس صورته على سطح بركة صافية و أخذ يحدق طويلا بصورته و عندما أدرك عدم قدرته على معانقة الصورة المائية، وهنت قوته فقامت الآلهة بتحويله إلى وردة.

يظهر في اللوحة نرجس جالسا على حافة بركة من الماء يحدق إلى الأسفل، و هناك شكل صخري متحلل قريب منه، يتجاوب معه عن كثب، لكن الإختلاف كبير جدا، صورة ليد تحمل بيضة تنمو منها زهرة نرجس، و في الخلف مجموعة من الرجال و النساء العارية من مختلف الأجناس، بينما يلوح شكل شبيه بنرجس في الأفق، و قد كتب "دالي" قصيدة طويلة مرفقة مع اللوحة، و بين فيها "أنه تخرج من رأس نرجس زهرة هي نرجس جديدة... جالا نرجستي". 

و تبدو اللوحة مثيرة و صادمة بتشكيلاتها و ألوانها، و دلالاتها متنوعة في عمقها و رمزيتها و تجاوز الرموز يثير إرتباطات هادفة و معاني هامة، و هي لوحة سيريالية بإمتياز قابلة لعدة تأويلات. 

و رسم دالي لوحة "ذيل النونو" و هي آخر لوحة رسمها سلفادور دالي، إنتهت في أيار من عام 1983،و قد إستندت إلى نظرية "رنييه توم" الكوارثية و فيها غرابة و رمزية معقدة جدا. 

و في باريس كتب سلفادور دالي سيناريو فيلم يحمل عنوان " كلب أندلسى" و يبلغ طوله حوالي 17 دقيقة و هو مزيج حلمي غريب، و المشاهد و الأفكار لا يمكنها أن تثير تفسير عقلاني من أي نوع "شفرة موسى تفقأ عين فتاة" و المعنى ربما "فقء" كل ما هو تقليدي و سائد، كما كتب كذلك "رجل ينزع فمه من وجهه" و " و بيانو تزينه جثث حمير"، و "نمل يزحف على يد رجل" و " واحد في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات" و من الطريف أنه لا يوجد في الفيلم أي كلب أو أندلس. 

و في مقال حديث قدمته الباحث كارولين مور في جامعة أكسفورد و المنشورة في مجلة الشخصية و الإختلافات الفردية، تميل إلى إعتبار سلفادور دالي مصابا بإضطراب ذهاني و إضطراب في الشخصية على الرغم من محاولات دالي إخفاء معلومات هامة عن نفسه في كتبه و تصريحاته الصحفية. 

و تشمل أعراضه الموصوفة هلاوس سمعية و حالات من الشك المرضى و نوبات من الغضب و العنف إضافة لهذيانات العظمة و سلوك جنسي إستعراضي و إثارة جنسية ذاتية غريبة، و ضحكات غير مناسبة مع تعليقات جارحة غير مناسبة، و صعوبات في التعاطف مع الآخر مع سلوك إحتيالي و شادية. 

و إذا وضعنا ما سبق ضمن الإطار التشخيصي للدليل التشخيصي الأمريكي الثالث يمكن إعطاء تشخيص ذهان غير نموذجي و فيه مزيج من أعراض الفصام و الإكتئاب، مع عدة من أنواع من إضطرابات الشخصية و هي الشخصية الزوري و الفصامية و المضادة للمجتمع و الهستريائية و النرجسية. 

و يشكك باحث آخر في هذه النتائج على إعتبار أن دالي لم يتلقى أي علاج نفسي، و أنه كان فنانا ناجحا و مبدعا و لم يسبب له المرض النفسي تعطيلا عمليا، و يقترح نظرية "الغرابة المسيطر عليها" و التي تعني أن مزيجا من الأعراض المرضية النفسية مع صفات نفسية صحية يمكن أن تسهل العمل الفني الإبداعي و أن الغرابة نفسها هي التي تسهل النجاح. 

و تتضارب المعلومات حول تلقى دالي للعلاج النفسي، و قد وردت معلومات بأن زوجته كانت تعطيه أدوية سببت له أعراضا شبيهة بداء باركنسون، و عادة ما يكون كذلك بسبب مضادات الذهان التقليدية. 

و تبين الدراسات النفسية الحديثة التي تحاول فهم العلاقة بين العمليات الإبداعية بمختلف أشكالها و الإضطرابات النفسية، أن درجة خفيفة من الصفات الذهانية الفصامية أو إضطراب المزاج الدوري "هوس إكتئابي خفيف" أو إضطراب التوحد، يمكن لها أن تدعم و تفسر العمليات الإبداعية الناجحة، و أن هذه الصفات مفيدة و إيجابية لأنها تؤدي إلى مرونة في التفكير و إنفتاح في الذهن و تحمل للمخاطر، و أنها رافقت الإنسان في سيرته التطور ية، و أن الفارق بين الطبيعي و المرضى هو فارق كمي و ليس و نوعيا، و لكن هناك ثمن لابد منه و هو أن البعض سيصاب بإضطراب نفسي شديد و معطل. 

في عام 1989 توفي الفنان السيريالي سلفادور دالي عن عمر يناهز 84 عاما، و قد إستحق كل الأوصاف التي أطلقت عليه "كالعبقري المجنون" و " الفنان العجيب" و "الرجل الذي يهذي" و غيرها من الألقاب التي تعبر عن غرابة أطوار  شخصية دالي بالنظر إلى الأفكار و التصرفات و السلوكيات الغريبة التي ميزت حياته الفنية و النظرية، سواء في موطنه إسبانيا أو أثناء إقامته في الولايات المتحدة. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق