آخر المواضيع

الجمعة، 18 مارس 2022

الملكة ماري أنطوانيت و الثورة الفرنسية


ماري أنطوانيت

ليس هناك من شك أن التاريخ قد دون في صفحاته شخصيات نسائية كان لهن دورا بارزا في تغيير مجرى التاريخ و من بين هؤلاء النسوة شخصية شهيرة ساهمت في وقوع حدث بالغ الأهمية في فترة من الزمن و قد عرف ذلك الحدث المهم قيام أكبر ثورة في التاريخ و التي تعرف بالثورة الفرنسية حيث تجاوزت أثاره حدود فرنسا تاركة ورائها بصمة واضحة على الفكر الإنساني بأسره حيث شكلت الثورة الفرنسية عاملا فعالا في تغيير مسار حركة التاريخ و إبراز ملامح مستقبل الإنسان بطريقة مذهلة و ينذر أن تتكرر، و الشخصية النسائية التي كانت مسؤولة عن هذا التغيير هي ماري أنطوانيت.

ولدت ماري أنطوانيت عام ١٧٥٥ في قصر هوفبرغ بفيينا و هي أصغر أبناء ماريا تريزا إمبراطورة النمسا ووالدها الإمبراطور فرانسيس الأول.

عاشت فترة صباها حرة مدللة في وسط أبهة البلاط الإمبراطوري الفاخر حيث تتمتع بكل أنواع الرفاهية و قد حملت لقبا نبيلا و هو الأرشيدوق، كان ينظر إليها على أنها زهرة البلاط الذي يطلب الجميع ودها و يسعون لنيل رضاها.

عندما بلغت ماري أنطوانيت سن الرابعة عشرة كانت على موعد مع القدر الذي رسم لها حيث لم تكن تدرك أنه بزواجها تكون قد فتحت بداية فصل من فصول مأساتها، ففي تلك السن الصغيرة ذهبت ماري أنطوانيت إلى فرنسا كزوجة لولي عرش فرنسا فقد كان زواجا سياسيا و ذلك من أجل توطيد التحالف الجديد مع عدو النمسا القديم فرنسا بعد مفاوضات طويلة تم التوصل فيها إلى خطوبة ماري أنطوانيت بولي عهد فرنسا لويس السادس عشر ليتم بعدها عقد قرانها بلويس السادس عشر و الذي تولى بعد وفاة والده لويس الخامس عشر عام ١٧٧٤ الحكم.  ففي التاسع عشر من إبريل عام ١٧٧٠ في عرض مهيب يجره سبع و خمسين عربة، تركت ماري أنطوانيت فيينا نهائيا على الرغم من أن  واجبها أن تنسى أصولها النمساوية لكي تصبح فرنسية حقيقية روحا و جسدا كما كان ينتظر من كل ملكة قرينة فرنسا.

ماري أنطوانيت في سن الرابعة عشر

كانت ماري أنطوانيت إمرأة تتمتع بالرقة و البساطة ترفض التكلف و تهوى الإنطلاق في الحقول و مطاردة الفراشات و جمع الزهور الناذرة، كان طابع البلاط الفرنسي يتميز بكثرة الدسائس و المؤامرات مما إختلط الأمر على ماري أنطوانيت و وقفت عاجزة عن مجارات النبلاء الفرنسيين في لعبة المكر و الدهاء. و قد أصبحت ماري أنطوانيت بعد فترة من مجيئها إلى قصر فرساي بفرنسا مكروهة جدا حيث تعرضت في بعض المرات للتأنيب بسبب إسرافها المفرط في الأموال على ملذاتها التي كانت تسرف من البلاط و عدم إعطائها أهمية للأزمة المالية التي تعاني منها فرنسا. 

أما لويس السادس عشر فقد كان يتمتع بجثة ضخمة لكنه كان صاحب شخصية خجولة، بليد الفكر و ضعيف الشخصية لدرجة أن ماري أنطوانيت كانت بكل ضعفها أقوى منه.

لويس السادس عشر

إتسمت الفترة الأولى من إعتلاء لويس السادس عشر العرش و توليه زمام الحكم بحدوث تجاوزات من طرف الطبقة النبيلة و الأرستقراطية و رجال الكنيسة التي كانت تشكل إستفزازا صريحا و لا يحتمل لدى الشعب الفرنسي مما خلق أزمة إقتصادية كان ضحيتها الطبقة الفقيرة التي كانت تعاني من الجوع و الفقر المدقع غير آبهين بمعاناتهم و من هنا بدأت بوادر الثورة الفرنسية تلوح في الأفق و تنتظر شرارة واحدة فقط لإشعالها، إلا أن الشعب أراد التريث و منح فرصة جديدة لملكهم ووضعوا أمامه فرصة تاريخية من أجل أن يقود الثورة لكي تتحول فرنسا إلى الملكية الدستورية بدلا من الملكية المطلقة غير أن لويس السادس عشر لم يستطع أن يفهم القوى الليبرالية و الديمقراطية في عصره و بذلك لم يتجاوب معها و كانت النتيجة عجز لويس السادس عشر عن الحيلولة دون إنفجار الثورة رغم أن ذلك كان ممكنا في ضوء ثقة الشعب فيه و تمسكه بشرعيته كملك لفرنسا.

كانت علاقة ماري أنطوانيت بزوجها لويس السادس عشر يغلب عليها طابع من الفتور العاطفي مما فتح ذلك بابا للشائعات التي باتت تحوم حول زوجته بإقامتها علاقات غير شرعية مع الكثيرين، و مع كثرة المكائد التي كانت تحاك داخل البلاط  حاول الشعب الفرنسي أن يحمل مسؤولية الإحباط الذي شعر به تجاه ملكه لويس السادس عشر إلى ماري أنطوانيت و السبب راجع إلى كونها من أصل نمساوي و ليست فرنسية مما زادت الأقاويل حول تآمرها مع رجال البلاط و أفراد الطبقة الأرستقراطية على الرغم من أن التاريخ قد إحتفظ لها بجملة كانت تدل على رؤيتها المستقبلية للأوضاع التي ستؤول إليه البلاد و هي أن النبلاء سيدفعونهم إلى الهلاك هذه الكلمات كانت تحدد رؤيتها الواعية للأحداث. 

كان حكم لويس السادس عشر في الفترة الأولى قبل قيام الثورة ما بين عامي ١٧٧٤ و ١٧٨٩ يتميز بزيادة سلطة النبلاء و نفوذ الطبقة الأرستقراطية و كان هدف الثورة في البداية هو الإنتقال إلى الحكم الدستوري لكن لويس السادس عشر لم يستجب لمطالب شعبه الرامية إلى إنهاء الملكية المطلقة و التحول إلى الدستورية و قد قيل أن رفضه لمطالب شعبه كان برغبة من زوجته ماري أنطوانيت التي كانت ترى أنه من الضروري قمع الثورة في بدايتها بيد من حديد، إضافة إلى تعرض لويس السادس عشر للضغوط من طرف النبلاء الذين أعربوا عن إستيائهم من تزايد قوة الشعب. 

إلا أن بعض المؤرخين يرون أن السلوكيات غير المدروسة من طرف ماري أنطوانيت هي التي قضت على هيبة الحكم و أتاحت المجال أمام الرعاع لكي يتطاولوا على ملكهم و طبقة الأشراف و أنها تتحمل مسؤولية إنفجار الثورة. 

في الخامس من مايو عام ١٧٨٩ حاول الملك لويس السادس عشر تهدئة الشارع بإصداره مرسوما يقضي بتشكيل مجلس تشريعي جديد في فرنسا بعد خمسة عشرة عاما من الحكم المطلق، و قد رأى الشعب في ذلك خطوة جيدة و إنطلاقة جديدة نحو الحرية و الديمقراطية غير أن طبقة النبلاء حالت دون حدوث ذلك حيث إستغلت ضعف شخصية الملك لويس السادس عشر و ضغطت عليه لإيقاف هذا التوجه الذي رأو فيه أنه يتعارض مع توجهاتهم و يهدد مصالحهم. و أدت تلك الضغوطات إلى نتيجة حيث تمكنت من إبعاد الملك من الإقدام على أية خطوة نحو الإصلاحات، و هنا أدرك الشعب أن ملكهم ينحاز إلى الطبقة الأرستقراطية إنحيازا مطلقا و أن طبقة النبلاء قد تمكنت من إستقطاب الملك في صفهم و أنهم نجحوا في ذلك. و هنا إشتعلت شرارة الثورة التي سوف تضع حدا لإستبداد الطبقة النبيلة و الأرستقراطية و إسقاط الملكية في البلاد. 

في يوليو عام ١٧٨٩ إنفجر الموقف في باريس و خرج عامة الشعب إلى الطرقات رافضين عدم إتخاذ ملكهم أي موقف إتجاه قضيتهم و مطلبهم الرامية إلى الحرية و الديمقراطية و هم يدمرون أي شيء تقع عليه أعينهم، كما هاجموا مخازن السلاح الملكية و توجه أكثر من مائة ألف مواطن إلى سجن الباستيل الرهيب الذي سقط بعد هجوم دام لخمس ساعات. 

إندلاع الثورة الفرنسية

في أكتوبر حاصرت جموع غفيرة من الشعب قصر فرساي رغبة منهم في مقابلة ملكهم لويس السادس عشر حيث دخل وفد منهم لمقابلة الملك و إنتهت نتيجة المقابلة بإعطاء الملك وعدا لهؤلاء الوفود بأن مطالبهم سوف يتم النظر و أخذها بعين الإعتبار فخرجوا من القصر و هم يهتفون و يتوعدونه بحياته لكن الحشود عادت مرة أخرى بعد أن علمت أن الملك غير صادق في وعوده و عندما أحست ماري أنطوانيت بخطورة الوضع طلبت من زوجها لويس السادس عشر بالهروب لكن ه كان عاجزا  حتى عن الهروب فوصفته ماري أنطوانيت بأنه رجل مسكين لأنها أدركت أن الغضب موجه ضدها بعد أن بدأت الجماهير تهتف بشعار الموت للنمساوية.

بعد أن فقد الملك لويس السادس عشر السيطرة على الأوضاع التي آل إليها الشارع الفرنسي و تهدئة الشعب الغاضب و الذي أدى في نهاية المطاف إلى إندلاع الثورة و بات من الصعب تهدئة الحشود الغفيرة الغاضبة و عمت الفوضى في كل أرجاء فرنسا و هنا حدثت تلك المواجهة و التي عرفت بالتاريخية بين كل من ماري أنطوانيت و خطيب الثورة الفرنسية و أحد أبرز قاعدتها ميرابو و هي المقابلة التي وضحت بجلاء قدرة ماري أنطوانيت على إقناع محديثيها و السيطرة عليهم حتى و لو كانوا على قد من الذكاء أمثال الزعيم ميرابو. 

ساهم هذا اللقاء الذي إستمر لساعة كاملة في إنقاذ الملكية في فرنسا حيث إستطاعت ماري أنطوانيت بإقناع زعيم الثورة الفرنسية ميرابو بوجهة نظرها، و لكن بموته يكون بذلك قد ذهب معه الضمان بإستمرارية الملكية حينها لم يكن لدى ماري أنطوانيت أي خيار آخر سوى الهرب مع زوجها و أولادها الثلاثة و التى باءت بالفشل. 

حاصر المتظاهرون قصر فرساي في يونيو عام ١٧٩٢ هاتفين بشعارات"تحيا الأمة" و أندفعوا إلى داخل القصر حيث ألبسوا لويس السادس عاشر قبعة جماعة اليعقوبيين الحمراء الشهيرة، و في تلك اللحظة بكى لويس السادس عشر عندما شاهد هذه القبعة على رأسه و أخبر ماري أنطوانيت بأنه لم يحضرها من النمسا لكي تشهد ذله و هوانه هكذا. 

حشود غفيرة تجمهرت أمام قصر فرساي

في الواحد و العشرين من شهر سبتمبر تم تجميد سلطات الملك و إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى و بدأت المطالبة بتخلي الملك عن عرشه بعد أن أصدرت في حقه تهمة خداع الأمة، و قد كان الخيار الذي طرح صراحة على الملك لويس السادس عشر هو التخلي عن العرش أو الموت، في ذلك الوقت كان لويس السادس عشر قد طلب من رئيس البرلمان توفير الحماية و قد كان هذا الأخير قد طمأنه لكن في الثالث من شهر ديسمبر من عام ١٨٩٢ تقرر محاكمة لويس السادس عشر بعد أن وجهت إليه تهمة الخيانة و تم الحكم عليه بالإعدام في الثامن عشر من شهر يناير عام ١٨٩٣ و نفذ فيه الحكم بالمقصلة في ميدان الثورة بباريس يوم الحادي و العشرين من يناير. 

خلال تلك الفترة شهدت فرنسا ما سمي بعد ذلك بعهد الإرهاب و تم إعدام الألوف من أفراد طبقة النبلاء و أيضا الكثيرون من الأبرياء. 

تنفيذ حكم الإعدام على لويس السادس عشر

بعد تنفيذ حكم الإعدام في حق لويس السادس عشر أصبحت ماري أنطوانيت حزينة جدا و فقدت أحاسيسها في لحظة إعلان حكم إعدامها هي و أولادها، كانت ماري أنطوانيت ملكة قوية تحتمل و تصبر و كانت أما حنونا تشعر بأبنائها و كانت ملكة ذات عز و بأس و قوة، في السجن تحول شعرها الجميل إلى أبيض متجعد و هي في سن صغير و قام حراس السجن بقص شعرها و إلباسها ملابس رديئة في فترة مكوثها في السجن قبل تنفيذ حكم الإعدام في حقها. 
كانت حياة ماري أنطوانيت حافلة بالمغامرات المثيرة و لعل أهم تلك المغامرات هي قصة علاقتها المثيرة بالسياسي السويدي النافذ الكونت أكسل فون فيرسن و التي تشير إلى إحتمال أن تكون إبنتها صوفي التي توفيت في سن مبكرة ثمرة لهذه العلاقة غير الشرعية، فقد عثر على بعض الرسائل التي كانت موجهة لماري أنطوانيت حيث كتب فيه الكونت الهائم في حب الملكة في إحدى رسائله "أحبك، و سأحبك بجنون طيلة حياتي" في حين كانت ماري أنطوانيت تبادله الرسائل حيث قالت في إحدى رسائلها تصفه فيها بأنه أكثر الرجال إظهارا للحب و إستحقاقا له و تخبره بأن قلبها بالكامل ملك له.
و مع أن بعض المؤرخين يقولون أن الرسائل الوحيدة المتبادلة بين الكونت أكسل فون فيرسن و الملكة ماري أنطوانيت كانت تتعلق بمسائل سياسية حصرا إلا أنه في الآونة الأخيرة قد بدأ الكشف عن حقائق تلك الرسائل و التي بينت الأبحاث التي قام بها الباحثون عن وجود علاقة حب بين ماري أنطوانيت و الكونت السويدي أكسل فون فيرسن و التي دامت لعشر سنوات و لكنها كانت سرية، حيث إعترفت فيها ماري أنطوانيت بحبها لفيرسن بواسطة رسالة كتبت بالحبر الأسود و قد كان تأريخ الرسالة في اليوم الرابع من عام ١٧٩٢ أي أنها كتبت بعد ستة أشهر من محاولة الكونت السويدي أكسل فون فيرسن تخليص ماري أنطوانيت و زوجها و نقلهما إلى خارج باريس  و التي إنتهت تلك المحاولة بالفشل. و الذي أدى في النهاية إلى موت الملك لويس السادس عشر بإعدامه بالمقصلة لتليه بعد ذلك الملكة ماري أنطوانيت. 
ماري أنطوانيت و عشيقها الكونت أكسل فون فيرسن

كان يوم محاكمة ماري أنطوانيت مشهدا حيا للغدر و نكران الجميل فقد شهد ضدها أقرب أصدقائها و إتهموها بكل الشرور و الموبقات لتنتهي بذلك المحاكمة كما كان مقررا لها من قبل بصدور حكم الإعدام بالمقصلة في حق ماري أنطوانيت، ففي صباح يوم السادس عشر من شهر أكتوبر عام ١٨٩٣ صعدت ماري أنطوانيت المنصة وسط حشد هائل من الجماهير القاضية و كان آخر ماسمعت قبل تنفيذ الحكم هو هتاف الموت "للنمساوية" و هوت سكين المقصلة على رقبة ماري أنطوانيت لتنهي حياتها و بذلك يكون قد إنتهت قصة إمرأة إرتبط إسمها بالمجد و المعاناة  و الدموع.
تنفيذ حكم الإعدام على ماري أنطوانيت







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق